لماذا الشناقطة يحفظون؟
محمود محمدالمختار الشنقيطي:
كثيرون أولئك الذين يطرحون هذا السـؤال حين يجمعني بهم مجلس، فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قـضايا طلب العلم، فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند الشناقطة، ولماذا كانت أهم سـمة عند علماء الشناقطة الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية.
فكانو يمتازون بالقدرة الفائقة على استحضار النصوص، ويسألونني عن أعجب ما بلغني من أخبار عن نوادر الحفاظ عند الشناقطة، وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضـرون، وحين كتب الله لي أول زيارة لبلاد الآباء والأجداد، ووقفت على بعض المحاظر القائمة على أطلال المحاظر العتيقة، وحظيت بلقاء فضلاء من العلماء هناك وقد أدركوا أواخر النهضة العلمية في تلك المنطقة.
وكان من أبرز سمات تلك النهضة اعتمادها على حفظ الصدور لما وجد في السطور، وأن العلم هو ما رسخ في الصدر ووعته الذاكرة متناً ومعنى، حتى أصبح هناك مثل يعبر عن هذا المعنى وهو: (القراية في الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما تحفظه.
وحين كتب الله لي تلك الزيارة كان مما يدور في ذهني الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في تلك المحاظر، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفـظ نادرة، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار عشرات الكتب.
هذه الملكة في الحفظ جعلت العلامـة سيدي محمـد ابن العلامـة سيدي عبدالله ابن الحاج إبراهيم العلوي (رحمه الله) والذي توفي عام 1250هجري يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح).
وجعلت العلاّمة محمد محمود التركزي (رحمه الله) والذي توفي عام 1322هجري، يزهو بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد منهم؛ لأنه يحفظ القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر، فكان كما قال، فأقروا له وأصبحوا يصححون نسخهم من نسخة التركزي المحفوظة في صدره.
وقبل أن أتحفك بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن الإجابة عن السؤال المطروح، أتحفك بأخبار الشناقطة ونوادرهم في الحفظ، مما وجدته مسطوراً في كتب التراجم، أو محكياً على ألسنة الرواة وسيتملكك العجب، حتى صارت حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات.
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي (رحمه الله) والذي توفي عام 1339هجري، أنه كان يحفظ كتاب لسان العرب لابن منظور، وكان الغلام من قبيلة مدلش يحفظ المدوّنة في فقه الإمام مالك قبل بلوغه، أما في مدينة تنيقي التاريخية وهي إحدى مدن قبيلة تجكانت فكان هناك أكثر من ثلاثمائة جارية تحفظ موطأ الإمام مالك (رحمه الله) وغيره من المتون، فضلاً عن الرجال ولهذا قيل المثل الدارج (العلم جكني).
وروي عن الشـيـخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمـد ابن الشيخ أحمـد بن سليمـان (رحمه الله) الذي توفي عام 1397ميلادي، أنه حفظ كثيراً من كتب المراجع مثل: كتاب فتح الباري، وكتاب الإتقان للسيوطي، وغيرها من الكتب والمتون التي يحفظها و يدرسها في المحظرة.
ومن العجيب ما نجده من محفوظات فقهاء الشناقطة في مجالات أخرى خارجة عن المتون والفقه والأصول وما يتعلق بالعلوم الشرعية، فهذا قاضي مدينة ولاته وإمامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري، وهي وليست من فنون القضاء ولا الفقه، وسمعتها عن العلامة محمد الأمين محمد المختار الجكني (آبّ ول اخطور) (رحمه الله) صاحب كتاب أضواء البيان.
وأما المتخصص في الأدب والشعـر فلا يحفظ أقل من ألف بيت في كل بحر من بحور الشعر العملية؛ حتى تتهيأ له الملكـة الأدبيـة لينظم أو ينثر ما يريد، فهذا العلامة والأديب محمد محمود بن أحمذيه الحسني، يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري، والمستطرف، وكامل المبرد، والوسيط في أدباء شنقيط، وديوان المتنبي، وديوان أبي تمام، وديوان البحتري؛ هذا في الأدب وحده دون غيره من الفنون والمتون التي يدرسها في المحظرة.
ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلامة محمد سالم بن عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القامـــوس، وقد استوعبته بطريقة غريبة، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى أحد علماء الحي تنظر له معنى كلمة في القاموس ـ وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها ـ فكانت مريم تحفظ معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت القاموس كاملاً.
وإن تعجب أخي القارئ من المتقدمين فلعل ممن أدركنا من المعاصرين الأحياء من يماثلهم في الحـفـظ؛ فمن ذلك ما حدثني به والدي ـ حفظه الله ـ قال لي يا بني: لقد كنا أيام طلبنا للفقه عند شيخنا الفقيه عبد الرحمن ولد الداهي، نتسابق في ختم المختصر ليالي الجمع فيستفتح من (يقول الفقير المضطر) بداية الكتاب فلا يطلع الفجر إلا وقد ختمناه لا نشكك إلا في مواطن قليلة في أقفاف السفر نكرر ذكر ذلك مرات، وممن أدركناه من الأحياء العلامة الشيخ أحمدّو بن العلامة الشيخ محمد حامد بن آلاّ الحسني نزيل المدينة النبوية ـ متع الله ببقائه.
ولا أبالغ إن قلت: إن ما في صدره من العلم لو جلس يمليه عاماً كاملاً لما كرر ولا أعاد منه شيئاً؛ فمن محفوظاته في النحو والصرف طرة المختار محمدسعيد المستحي من الله الجكني (ول بون) على الاحمرار يحفظها بنصها، وطرة الحسن بن زين على احمراره للامية الأفعال لابن مالك أيضاً، والمقصور والممدود لابن مالك مع شواهده وهي تقرب من ألفي بيت، وضوابط وشواهد على مسائل ألفية ابن مالك بعضها له وبعضها لوالده ولبعض علماء الشناقطة تبلغ قرابة ثلاثة آلاف بيت، إضافة إلى بعض من ألفية السيوطي في النحو.
أما في غريب اللغة فيحفظ نظم ابن المرحل، ونظم أبو بكر الشنقيطي، وكثيراً من مواد القاموس، وجل شواهد الغريب من تفسير القرطبي، ومثلث ابن مالك وهو يبلغ ثلاثة آلاف بيت مع شواهده، فضلاً عن غيرها من العلوم والفنون.
ومن المعاصرين المشهورين بالحفظ صاحب المحضرة العامرة العلامة محمد الحسن بن الخديم وقد حدثني بعض تلامذته أنه يحفظ النص من مرتين فقط، وأنه لا يكاد يوجد فن إلا ويحفظ فيه ألفية؛ حتى في الطب والعقيدة والقواعد الفقهية والقضاء، وأنه يحفظ كثيراً من كتاب سيبويه وقد تمنى لو حفظه في صغره.
ومن نساء الشناقطة العالمة المفتية الفقيهة مريم بنت حين الجكني والـدة الشيخ عبد الله بن الإمام، حدثني بعض تـلامذة ابنها أنها كانت تشرح لهم ألفية ابن مالك إذا لم يكن ابنها في المنزل، ورويت عن قريبات لي أنها تحفظ كثيراً من المتون الفقهية وتفتي النساء في الحج والحيض، ولها ألفية في الـسـيرة النبوية ولها منظومات فقهية لبعض المسائل والنوازل. وهذه قليل مما وقفت عليه وللشناقطة في الحفـظ وسائل وطـرق أجملهـا فيما يلي:
1 – التعليم الزّمَرِيّ :
أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهي دراسة جماعية يشترك فيها مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد يدرسونه معاً، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه، بل ويتحاجون فيه، ويحفز بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة والملل. أذكر وأنا في المرحلة المتوسطة أنني أدركت مجموعة من طلاب العلم الشناقطة في المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة يتداولون شعر المعلقات.
2 – تقسيم المتن إلى أجزاء :
وهو ما يعرف بلغة المحاظـر (الأقفاف) مفردها: قُفّ. والمشهور في المحاظــر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء. وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر على تقسيم شائع بينهم، فمثلاً مختصر العلامة الـشـيـخ خلـيـل عندهم ثلاثمائة وستون(16) قفاً، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه، فيعرف الـطــــالـب مـــواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار، كما أن تخزين المادة في الذاكرة مـرتـبــــــة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها.
ويرى الشناقطة وهم مضرب المثل في قوة الحافظة أن (القف) لا يستطيع الكثير استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى تجزئة كل متن. وسارت عندهم هذه العبارات مسار المثل: (قـفْ أف) أي أنه بمثابة الريح (أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة. (نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً. (الثلث يوترث) أي أن ثلث القف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت كأنه يورث من بعده. 1بلاد شنقيط المنارة والرباط، ص 200.
3 – وحدة المتن واستيفاؤه :
ينصح الشناقطة الطالب بأن يشتغل بدراسة متن واحد يفرغ قلبه له، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره، ولا ينتقل عنه حتى يستوفي دراسته كله، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها، كما أن بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً، وينم عن كسل وقصور في همة الطالب، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين؛ فلا سبيل إلى خروجهما معاً في آن واحد، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر، ونظموا هذا المبدأ بقولهم:
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ
وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا
إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا 2السلفية في موريتانيا، ط الأولى، ص 104.
4 – صياغة المتن المنثور نظماً :
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ، وضمان حظ أوفر من القبول والبقاء له، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري. وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر، قال ابن معط (رحمه الله) في خطبة ألفيّة في النحو:
لعلمهم بأن حفظ النظم
وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرجز
إذا بني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل حفظه على الطلاب، فمن ذلك(19) أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي ـ ـ (ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام، والعلامة محمد المامي الشمشوي ـ ـ (ت 1282هـ) عقد كتاب الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه (زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام الماوردية)، والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال) للميداني.
5 – تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ :
فعدد تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة، ويسمونه بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في الصباح ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي من المتن بهذه الطريقة، ثم يأخذ متناً آخر ويخصص للمتن السابق ختمة أسبوعية يمر عليه من أوله إلى أخره، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له، لا يصل الإهمال والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن، وأعرف من المشايخ في المدينة المنورة من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون القصيرة مثل لامية الأفعال في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية وبلوغ المرام وغيرها.
6 – حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ :
وهذه من أهم الطرق التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر، وكان شيخنا الشيخ سيد أحمد بن المعلوم البصادي لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً، فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه.
7 – الحفظ على قدر الحاجة :
لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم والأبواب في الفن. فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً، وبلغ في المتن كتاب الحج، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون المختلفة.
8 – تأثر البيئة بالحركة العلمية :
فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة الناس هناك؛ ففي بلاد الزوايا(21)، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته، ولا من العربية ما يصلح به لسانه، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق ابنه وقصّر في تربيته. وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا يتسرول(22) الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل، فحفظ المختصر عندهم شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج.
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون السائدة؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون: (لا حِق فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة في مختصر الشيخ خليل. ومن أمثالهم قولهم: (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة ابن مالك في الألفية.
9 – مجالس المذاكرة والإنشاد :
عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية. وهي عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة).
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه، أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه، وأعرف عدة مجالس في المدينة المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن والفقه والسيرة النبوية، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني ـ وهو راوية شعر ـ ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي هو منها، وذكر الكتاب الذي توجد فيه، فتصدى له حبيب ابن أمين أحـد تلامـذة العلامـة حُرْمـة بن عبد الجليل ـ رحمة الله على الجميع ـ فسأله من القائل:
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني
عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس: نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة أبي تمام، فدعي بالكتاب، وقلب ورقة ورقة، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب: ها هي بقية الأبيات وذكرها:
دير حوى من (ثمار) الشام أودها
وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا
خمصان غض بزنديه سُـواران
وقال إن القطعة من إنشائه، نظمها تعجيزاً لزميله، وساق دليلاً على صحة قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب، وكان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل (رحمه الله) الذي توفي عام 1234هجري حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على البديهة:
لله درك يا غليّم من فتى
سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ
وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة
والأرض تصغر عن بساط الكوكب 3الشعر والشعراء في موريتانيا، للدكتور محمد المختار ولد أباه، تونس 1987م، ص 36-37.
10 – اغتنام لحظات السحر
اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ، فلا تكاد تجد طالباً من طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت، وقد حدثني والدي (حفظه الله) فقال: كان إذا صعـب علينـا حفـظ شـيء انتظـرنا به السحر فيسهله اللـه علينا، وهذا ليس بغريب فهي لحظات مباركـة؛ وفيها النزول الإلهي، وهي وقـت الهبـات والأعطيـات(24).
كما أن ساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر الليل. 4أورد الإمام ابن الأثير (رحمه الله) في النهاية (2/129) قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه شاهداً على أن الإدلاج يكون في السحر
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم أجميعين) في انتظار يعقوب (عليه السلام) لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه في سورة يوسف: ((يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)) فقال: ((قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ))أي أنه أخّرهم إلى وقت السحر، وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما حققه الحافظ (رحمه الله) في الفتح.