مقالات الرأي

حمام الحرم أسوة وقدوة

منذ أنْ عرفتُ الحرمين الشريفين وأنا أشاهد هذا الحمام الهادئ البريء صاحب المرونة واللباقة واللياقة في ساحات الحرم المكّي والمدني يلتقط حبّاً نثرتْه أيدي المحسنين أو يصطفّ أنساً بالبركات، ولم تغب عن ذهني هذه الصورة كلما جاءَ ذكر الحمام مصادفة أو قصداً، واليوم قلتُ لعلّ في هذا المنظر المتكرر لكل زائر للأماكن المقدّسة هداية ورُشد إلى ما هو أعظم وأقوم، فمن يعرف بأنّ أيقونة السلام في تكنلوجيا السياسة اليوم هي الحمام ولو اختلف بلونه عن حمام الحرم يقرن بين إسلامنا العظيم وسلامهم المنشود، والذي جرّب الدخول في سرب الحمام وهو مصطف في باحة الحرم يلمس ذلك النمط الفريد من حساسية الاستشعار وسرعة الانتشار والانصياع لأولوية المرور دون أية ضوضاء ولا معاندة ولا أبواق تنبيه، يأتي حمام الحرم لرزقه فرحاً أديباً وينصرف حامداً شاكراً نشيطاً، لا يحمل الحمام معه مؤن الغد ولا احتياطات المستقبل، بل يطير لإكمال نسكه وقضاء تفثه مسبّحاً ربّه دونما إزعاج سامعين، يتفرّق الحمام ويجتمع في خطّة لا يعرف تفاصيلها إلا رب خلقه فهداه سبيله، لو استشرفنا مستقبل العمل الجماعي في وطننا لكان لنا في حمام الحرم أسوة حسنة، ولو ابتغينا حفظ جميل وطننا تجاهنا بالجد والاجتهاد في صمت أفواه وحديث أفواج لكان حمام الحرم لنا مثالاً يُحتذى به، وما من إنسانٍ رأت عيناه طقوس حمام الحرم ووقف تمعّناً واستكشافاً إلا تبسّم ضاحكاً وكبّر معظّماً ربّ البيت وربّ الحمام، ولم يورد التاريخ ظلماً ارتكبه حمام الحرم حيال إنسانٍ حلّ ضيفاً للرحمن في بيته أو في مسجد رسوله صلى الله عليه وسلّم رغم أنّ ذات الحمام لم يسلم وإن على استحياء من ظلمٍ وهضم حق من فرادى خالفوا تشريع الله في أدبيات التعامل مع حمام حرمه وحماه، ومن ذلك سيجد الإنسان نفسه في خجل تقييم نفسه ومن حوله وهو معهم يفشلون حتى في زرع دوافع الالتزام بقوانين هم وضعوها لتطيبَ حياتهم، وفي سلوكيات حمام الحرم حين الهجوع في فراغات الأمكنة ما يلتقط منه بنو آدم أدباً جمّاً حين حضور الموائد والتّوافد على صدقات الباذلين، فلم تر عيني واحدة حمامٍ منعت أختها ولا أختها تسابقت معها نحو نصيبها ولا بعضهم بمزاحم بعض أذى وتعدّياً، وفي حمام الحرم حين أستطرد حسن امتثال بأنّ الضعيف أمير الركب، وبأن يد الله مع الجماعة، وبأنّ السمع والطاعة لا تعني جعجعة صوت وجلبة ادّعاء بقدر ما هي وازع نفسي وطبيعةُ ممارسة، ليس لحمامِ الحرمِ ردّة فعلٍ انتقاميّة تجاه من اعتدى على أمنه سوى فضاء يسبح فيه حتى تحينَ فرصة ركون، هو للأمن تواقٌ ولحقّه الطبيعيّ في الراحة باحثٌ أنيق، ولو تدّربنا على يد حمام الحرم لانتهينا عن إشاعة الفوضى بالإرجاف، ولأمسكنا عن إظلامِ الصّورة بالسيّئات والعيوب دونما حلول، ولاكتشفنا فيه رسالة من الله في مخلوقاته كالتي بعثها بغرابٍ يبحث في الأرض ليريَ ابن آدم كيف يواري سوأة أخيه.

المصدر
مكة

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى